* خداع : وقام والدي يساعدني في إعداد حقيبة السفر وتعجبتُ لما وجدت والدي يضع كل ملابسي أنا وأختي ... سألته يا أبي لماذا تضع كل ملابسي ؟ ... إنها ثلاثة أيام فقط . قال لي أبي : ( عماد يا بني ) ستعرف كل شيء وذهبنا إلى المطرانية في القاهرة ، وإذا بي أرى أبي منهمكاً في إنهاء بعض الإجراءات ثم انتقلنا إلى بني سويف وفي الطريق سألته إلى أين نحن ذاهبون أنا وأختي ؟ وعِنْدَ مَن ؟ ليس لنا أقارب في بني سويف !! قال: ( هناك ستكونون في أحسن حال وأروق بال ، وسأكون عندكم بعد أسبوع علشان تكونوا في غاية الانبساط ) وإذ بوالدي يبكي وحضن أختي هبة الصغيرة ويزيد في البكاء ويقول : ( منها لله أمك منها لله هي السبب ) . وصلنا بني سويف (المطرانية ) وتحدث أبي مع المطران ثم ذهب بنا إلى بيت اسمه ( بيت الشماسة ) وكان هذا المنزل قديماً مقابلاً لقصر الثقافة ، وكان رئيس هذا المنزل قسيساً ومشرفاً عاماً ، ورجلاً صعيدي الأصل ، شديد اللحية ، فسلم والدي عليّ وأوصاني بأختي وودعني ثم انصرف وذهبتْ أختي إلى مكان مجاور للمطرانية هو ( بيت الفتيات)، تعرفتُ على أفراد المنزل من الشباب ، وذهب بي المشرف إلى غرفة كان المكان غير مرح لأن كل الغرف كانت شبه عنبر السجن، حيث الأسرة ذات الطابقين والملابس المرقعة من الخلف ، والزي الموحد وكثرة عدد المقيمين وطريقة أسلوب قذرة ، من ألفاظ وأحاديث فيما بينهم وشتائم كل منهم للآخر والتنابذ بالألقاب. كان الموقف صعباً عليّ لأن المكان غير مريح ، والصحبة لا تعاشر وبعد عدة أيام سألت المشرف إلى متى الجلوس ها ومتى سأعود إلى محافظتي ؟ كان الرد أفظع رد، وكان هذا اليوم عصيباً ، وكنتُ محل سخرية من الجميع . حفظت أشياء خلف القسيس وتهيأت بكل التعاليم من القساوسة والمشرفين، والكل كان يقول : إن هذا الشاب له مستقبل باهر في الحديث والمناقشة ، وقد تم رشمي شماساً[12] في بني سويف ، وتم قص شعري على شكل صليب، وتمتم ببعض الكلمات وقال مطران بني سويف أثناء رشمي ( عقبال ما تبقى قسيس ) وصرت منذ تلك اللحظة حائزاً على درجة (شماس) داخل الهيكل، بدأت تدور الأيام وبدأتُ أتأقلم مع شباب البيت ، وأصبحت محبوباً لديهم جميعاً لحسن القول معهم وحسن التعامل . مللت الحياة داخل البيت بسبب تعاليم النصرانية التي كانت تصب فوق رؤوسنا على غير شرح أو تعليل . بدأت في كتابة الخطابات لوالدي وأخذت أشرح له الوضع الذي أنا فيه من ألم وحزن شديد وغربة ما بعدها غربة . لكن كل الخطابات التي ذهبت له من بني سويف كانت دون جدوى !!
* قرار إداري : خرج قرار إداري من المطرانية في بني سويف بنقلي أنا وأختي فوراً إلى ( بني مزار) المنيا ولا أدري لماذا ؟... ! جاء أحد القساوسة مخصوصاً من المنيا وقال : أين عماد وأخته ؟ وكان ذلك أول لقاء مع أختي ( هبة ) منذ ستة شهور، وتعانقنا معاً وبكيت من شدة فرحتي بلقاء أختي هبة ، وسألتها عن حالها أخبرتني بأنها كانت أصعب حياة عاشتها في حياتها إذ كانت المشرف تتعامل معهم بالعصا. أخبرنا القس المرسل بأنهم علموا في بني مزار من الأنبا ( مطران بني سويف ) بأنني وأختي غير مستريحين في بني سويف . وتم على الفور نقلنا إلى ( بيت النعمة ) وفي الطريق سألني القس عن أمي كانت إجابتي لا تسمن ولا تغني من جوع ، وفي نهاية حديثي قلت له : أتصدق أنني نسيت شكل أمي . ضحك ذاك القس وقال: ( أحسن أنت عاوز منهم إيه ، أنت هنا معنا وستكون في يوم ما قسيساً للكنيسة له مكانته في المجتمع والأوساط المرموقة وستكون في حياة أفضل من هنا بإذن المسيح ) . سألته متى سنرجع إلى والدي ؟ قال : ( أظن أنه عيب قوي إنك تنظر إلى الدنيا بهذه النظرة، وأنت وُضِعت ضمن مجموعة تعد لتكون من القساوسة )، قلت له : وأختي هبة ؟ قال : وأختك هبة ( كم سنة كمان وتتزوج بقس طيب مثلي )[13] . أحسست بأنه قد تم الحكم عليّ بالسجن مدى الحياة أنا وأختي. ذهبنا إلى المنزل ( بيت النعمة ) وهو معروف لدى الناس بمدرسة الأقباط المشتركة الابتدائية ، وداخل هذه المدرسة من الركن الشمالي فيلا ثلاثة أدوار هي ( بيت النعمة ) سلّمت علينا امرأة وذهبت بنا إلى القس مشرف البيت . فسلم علينا وقال للمشرفة الملعونة : ( أحضري طعاماً للأولاد وأفضل الملابس وخذي هبة لحجرتها مع زميلاتها ، وأما الواد عماد يجلس في الطابق الأسفل مع أمير وسامح ورؤوف ) . المنزل حقيقة كان أفضل بكثير من ( بني سويف ) وكان لكل فرد سرير ودولاب منفرد به . أحضرَتْ المشرفة بعض الملابس الجديدة ، تعرفتُ على هذا الثلاثي ، كانوا في منتهى الأدب والأخلاق والاحترام ، كان أمير وسامح أخوين ، وكان رؤوف غريباً عنهم ، أحببت هؤلاء جداً . وكان الكل خائفاً جداً جداً من المشرفة العجوز التي ( حرمها الله من كل مسحة جمال أو خلق ) ونعتها بكل ما هو قاس وقبيح ، إنها مخيفة حقاً ، شربت المرّ ألواناً ، وعشت الصبر بكل معانيه على يد هذه العجوز ، حتى سميتُ هذا البيت ( بيت النقمة لا بيت النعمة ) وصرت أذكر الأيام التي عشتها في بني سويف بكل خير ، فقد كانت أيامي فيها نعيماً قياساً على أيامي في بيت النعمة. كانت هذه المرأة تتعامل معنا بالسياط الحامية وكأنها في حديقة حيوان . كما عبرَّت ذات يوم بقولها : ( هؤلاء الحيوانات لا بد لهم أن يتربوا بهذه الطريقة). حتى إن هذه المرأة كانت تراقبنا وقت تناول الطعام وتلاحقنا بأوامرها ، ولم يكن غريباً أن تأمر الفرد أن ينهض ويترك الطعام دون أن يشبع إذلالاً له وإهانة لكرامته أمام زملائه .