وكان مؤسس هذه الدولة هو عثمان بن أرطغرل بن سليمان بن شاه من قبائل الترك النازحين من سهول آسيا الغربية إلى بلاد آسيا الصغرى هرباً من الزحف المغولي، وكان والده عاملاً لأحد الإمارات التى أعقبت دولة آل سلجوق، ثم ورثه عثمان - هذا - وورث حكم الولاية عن أميرها علاء الدين سلطان قونية بعد وفاته.
ثم بدأ في توسيع مملكته في اتجاه الروم القاطنين ببلاد آسيا الصغرى، وتوالت في عهده الفتوحات، وفي عهد أبنائه من بعده حتى ضمت كثيراً من البلاد الإسلامية، ومن ضمنها مصر، حيث دخلها السلطان سليم الأول، وتنازل الخليفة العباسي محمد الملقب ( بالمتوكل على الله ) وهو آخر ذرية الدوله العباسية تنازل له بالخلافة، وسلمه مفاتيح الحرمين الشريفين، فكانت الخلافة العثمانية بذلك هي الخلافة الإسلامية الظاهرة في الأرض بامتداد رقعتها، وقيامها بمهام الدعوة والجهاد، والحكم والقضاء، وسياسة الدنيا بالدين، ووصلت الفتوحات الإسلامية في عهدها ذروة أمرها.
وبذلك نخلص إلى أن الدولة العثمانية ورثت تركة عظيمة من واقع المسلمين وحاضرهم، وتحملت تبعات القيادة والحكم، ومن ضمن ما ورثته الدولة العثمانية تلك الجوانب السلبية - الآنفة الذكر - والتي كانت قد سرت في المجتمع الإسلامي، وأصبحت ظاهرة ومتوغلة فيه، ضاربة بجذورها الفكرية والتاريخية والجغرافية، وشاملة لكثير من جوانب الحياة، وهذا الأمر كان يفرض على خلفاء بني عثمان العمل على إصلاح الأوضاع الداخلية، وتصحيح المسار، وتوجيه المجتمع إلى السبيل الصحيح، ومجابهة الانحرافات العقائدية والتعبدية والأخلاقية، وتجديد معالم الدين، وإبراز المفاهيم الصحيحة في الإسلام، وتربية الناس على ذلك، وحملهم على العودة إلى هذا الدين، وإبراز المفاهيم الصحيحة في الإسلام، وتربية الناس على ذلك، وحملهم على العودة إلى هذا الدين، وبالأخص منهج أهل السنة والجماعة، ودعم الحركة العلمية لعلماء ودعاة هذا المنهج، وإعطائهم الدور الأكبر في قيادة الأمة، وتنشأة الأجيال، وهذا كله منعاً للانحدار والسقوط الوشيك الذي بدت معالمه تبرز، ومقدماته تظهر، ومؤشراته تدق أجراس الخطر.
وهو في الحقيقة الوظيفة الأساسية والدور الرئيس الذي يجب أن تقوم به أي خلافة إسلامية تقوم في الأرض، وتتبنى الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، ولكن للأسف فإن ذلك لم يتحقق لا لشيء سوى لأن بني عثمان لم يكونوا علماء عارفين، وقيادة متربية منذ سابق عهدها، وإنما كانوا قبائل متمسكة بالإسلام - بمعناه العام -، ثم أنهم كانوا قيادات قتالية، وقد يكون ذلك عذراً لهم، وعبرة لأولئك الذين يريدون أن يكلوا أمر الخلافة إلى من ليس بأهل لها، ولا يحكم صنعتها وفق هدى الله - تعالى-.
أسباب سقوط الخلافة العثمانية:
إذا فقد الحكام دورهم أو تركوا وظيفتهم المناطة بهم شرعاً أو جهلوها، ثم بعد ذلك أزيح العلماء عن القيادة، وحوربوا فضلاً عن أن يستمع لهم ويصغى إلى رأيهم ومشورتهم؛ هذا الأمر مؤذن بخراب البلاد والديار والدول، فإنهما الصنفان اللذان تحقق بهما النجاة: ذو السلطان العادل، والعالم الورع، القائم بأمر الله، المبلغ له.
وقد تعهد الله - عز وجل - لمن لزم شرعه وأوامره، واجتنب نواهيه؛ بالعزة والتمكين، وتوعد من أعرض أو خالف بالعقوبة الدنيوية والأخروية.
إذا استقر ذلك في أنفسنا فإننا يمكن أن نجمل الأسباب الحقيقية لسقوط الدولة العثمانية في قضية واحدة هي: الإعراض عن أوامر الله، ومخالفة شرعه، وسلوك سبيل غير المؤمنين من الصحابة، ومن هنا ننطلق في الأسباب الفرعية والثانوية والتي تتفاوت في عمق تأثيرها على سقوط الخلافة، وإننا مع ما سنذكره فإننا لا ننكر الدور الخيري، والجوانب الإيجابية لخلفاء الدولة العثمانية، ولكن مقامنا هو مقام أخذ العبرة والدرس والعظة، وهذا يعني ترك العواطف السطحية الساذجة جانباً، والالتفاف إلى الحقائق الشرعية، والوقائع التاريخية، والنظرة الجادة، وهنا أنبه إلى أن يقارن الأخ الكريم بين أسباب وعوامل سقوط الدولة العثمانية، وبين واقع الدول المعاصرة:
من عوامل السقوط:
أولاً: عدم تبني خلفاء الدولة العثمانية لمنهج أهل السنة والجماعة الذي حقق به الصحابة خير خلافة في الأرض بعد رسولهم، حتى شهد لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها على منهاج النبوة، بل على العكس من ذلك نجد أن العثمانيين تبنوا الإسلام مجملاً، مع إعطاء الحرية للجميع، وترك الناس على معتقداتهم، ما كان منها حقاً وما كان منها باطلاً، والعلة وراء ذلك أن الغاية التي قام لأجلها العثمانيون - كغيرهم ممن سبقهم - هي الدولة وليس الدين، والحكم وليس الإصلاح، كونهم مجرد قبائل قتالية قوية الشوكة، فلم يتميزوا عن غيرهم بالعلم والدعوة والعبادة، بل ظهروا كقيادات عسكرية، ولم يزل بهم التدرج حتى نالوا الخلافة.
وعدم تبنيهم لمنهج أهل السنة والجماعة، والاكتفاء بمسمى الإسلام الفضفاض - وبمعناه الإرجائي - جعل الدولة تسير ببنيان متصدع ضعيف اللبنات، مقوض الأسس، يوشك أن ينهار لولا قوة السلطان، وبقايا من خير هنا وهناك، وهذا ما يترجم لنا ما آلت إليه حال الخلافة من ضعف عام، وتمزق خيانات داخلية قبل تسلط الأعداء.
ثانياً: إهمال الدولة للعلم والتعليم، والدعوة والتربية في أوساط الأمة، مع حاجة الأمة الماسة إلى ذلك لبعد العهد، وانشغال المسلمين بكثير من الفتن والمحن والكوارث، ودخول كثير من أهل الأديان في الإسلام.
كل ذلك كان يوجب على الدولة إقامة مراكز علمية شاملة لجميع أطراف البلاد بدون استثناء، والدفع بالحركة الدعوية الإصلاحية في أوساط عامة المسلمين والجيوش الإسلامية بالأخص، وتربية الكوادر الجيدة لتأهيلها لمناصب القيادة ومراكز السلطة والإدارة في الدولة.
والذي صرف الخلفاء العثمانيون عن ذلك اشتغالهم بالتوسع في البلدان، حتى أصبح الجهاد قتال دولة لا جهاد ملة يجني الناس ثمرته هدى وبيان، فاتسعت رقعة الدولة في سرعة مذهلة، حتى ضمت أجناساً شتى، وقوميات مختلفة تمتد من المحيط إلى المحيط، ومن وسط أوروبا إلى وسط أفريقيا، مع بقاء كثير من هذه الأجناس على دينها النصراني أو الوثني.
هذا الاشتغال بالفتوحات، وهذه الحروب؛ عطلت البناء الداخلي الذي كان مع الوقت يفقد لبناته الطيبة، وأفراده الصالحين، ووصول من هو دونهم في أماكن التأثير.
ثالثاً: الاعتماد في المعاملات على مبدأ الإرجاء، والثقة المفرطة بكل داخل في الإسلام ومدع له، مع قيام المقتضي بتكفيره وقتله، وذلك كان له أثره في غلبة المندسين والمنافقين على مقاليد الحكم والسلطة في طول البلاد وعرضها.
رابعاً: إعراض الخلفاء عن إدارة شؤونهم بأنفسهم، وإيكالها إلى المقربين منهم، وتفرغهم لشؤونهم الخاصة، والترف والبذخ، واللهو واللعب، والشهوات.
خامساً: تقلد الخلافة وراثة، ووصول بعضهم إلى الخلافة دون سن الرشد والبلوغ، حتى أن بعضهم تولى الحكم في سن الرابعة بل أحياناً دون ذلك، ومن ذلك أن العادة المتبعة عند تولي الابن الأكبر للخلافة - بعد والده - قتله لجميع إخوانه، ومن شك من قرابته؛ مخافة أن ينازعوه الملك، وقد ذكر الأستاذ محمد فريد المحامي مؤلف كتاب "تاريخ الدولة العلية العثمانية " أن ذلك كان متبعاً في بني آل عثمان، حتى أن منهم من قتل خمسة من إخوانه، ومنهم من قتل 19 أخاً له، ومنهم أقل من ذلك، ومنهم أكثر، بل إن ذلك يكون يوم تقليده للخلافة، فانظر - رحمك الله - إلى هذا الظلم لذوي القربى بهذه الحجة الإبليسية، فكيف يستحقون بعد ذلك دوام التمكين وقد أصبحت عادة متمكنه فيهم، فهل هذا هو الإسلام؟
سادساً: مما كان له أثر في ضعف الدولة العثمانية - فرقة الإنكشارية -، وهي فرقة قتالية شكل أفرادها من أبناء الأعاجم الذين وقعوا في أسر الدولة العثمانية، حيث يتم عزلهم وتنشأتهم على الإسلام والقتال بعناية السلطان ذاته.
وكانت في بداية أمرها عوناً للدولة في معاركها وقتالها مع الأعداء، إلا أنه ومع فساد السلاطين والقيادات في الدولة فسدت هذه الفرقة، فكانت سبباً عظيماً في نشر الفتن، والسلب والنهب، وانتهاك الحرمات، وإخافة الناس، وإضاعة الأمن، وإرهاب الدولة، بل وصل الحد بهم في فترة من الفترات إلى توجيه سير المعارك للتخاذل أو الصلح، وإلى أخذ ممتلكات الدولة، وتهديد الخلفاء إلا أن يعطوا من الأموال الشيء الكثير، وحدث في ذلك قتل لوزراء في الدولة، بل وإلى قتل أحد الخلفاء، وهكذا عندما يفسد الرأس يفسد الجسد، وعند غياب الدين يتهاوى الناس على الدنيا، وتفسد المقاصد، وتنحرف عن الدار الآخرة.
سابعاً: قيام الثورات الداخلية سواء من الولاة رغبة في الانفراد بالحكم في الإقليم، والتحرر من الخلافة، أو كان بدافع قومي كما حدث للعرب قبل إلغاء الخلافة من الدعوة إلى القومية العربية، وترك الخلافة العثمانية إلى خلافة الشريف حسين، أو كانت ثورات للأقليات الدينية الصليبية والوثنية في أطراف البلاد رغبة في الاستقلال، والانضمام إلى دولهم المجاورة التي تدفع بمثل هذه الثورات، وكانت هذه الثورات تستهلك طاقات البلاد ومقدراتها، كما أنها لم تكن تنقطع مطلقاً لاتساع رقعة الدولة، وكان من تلك الثورات ثورات تشتكي من استبداد الولاة وطغيانهم، وظلمهم وقهرهم... الخ، وكانت غالباً ما تشتعل هذه الثورات من الخبثاء والماكرين.
ثامناً: الركون للأعداء بإحسان الظن بنواياهم، وتلقف عاداتهم وتقاليدهم، والعمل بتوجيهاتهم وتوصياتهم في السياسة الداخلية والخارجية، وكان التعامل في زمن القوة والتمكين للعثمانيين على نحو ما ذكرنا، ثم آل بهم إلى أن وقعوا في حبائل النصارى، فأصبح تدخلهم في شؤون البلاد عن قوة، وقبول العثمانيين لذلك عن ضعف، الذي أدى إلى ذلك عدة أمور:
· دخول الدولة العثمانية في حروب لا ناقة فيها ولا جمل إلا انجراراً وراء خدع الغرب الصليبي مما أورثها ضخامة الديون، وإهلاك الاقتصاد.
· اجتماع الصليبيين على قتال الدولة العثمانية يداً واحدة، وتأجيج نار الفتن في داخلها بأيدي الأقليات النصرانية في أوروبا تارة، وفي الشام تارة، وفي أطراف آسيا الوسطى تارة.
· إعطاء الدولة العثمانية مبكراً للنصارى واليهود حقوقاً وامتيازات - غير شرعية في الغالب - مكنت لهم في ديار الإسلام، وكفلت لهم حريات التنقل والتجارة والاستيطان، وإظهار الشعائر وغير ذلك مما طمّحهم في نيلهم الاستقلال، وبالفعل كان يعمل هؤلاء ليل نهار في نيلهم للاستقلال عن الخلافة العثمانية على مراحل، فكان من الدولة العثمانية أن استرسلت في إعطائهم حقوقاً استقلالية لولاياتهم، وإداراتهم، وسبل حياتهم؛ ليظهروا ككيان مستقل لا يتبع الخلافة إلا في المسمى، وصك العملة، ودفع الضرائب، وكان ذلك بداية الهلكة.
· ائتمان السفراء، وكشف الخطط الحكومية لهم، واستنصاحهم في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية، حتى ثقلت كلمتهم، بل وتمكنوا بما كان لهم من امتيازات خاصة بالاتصال بشخصيات مشبوهة، وضعفاء النفوس في مرافق الدولة، وإغرائهم بالدعم والمال، حتى أن السلطان عبد الحميد الثاني يذكر في مذكراته انزعاجه من هذا الأمر الذي بلغ ذروته.
· إيفاد الطلبة والشباب للدراسة في الخارج دون إعطائهم الحصانة العلمية والإيمانية الكافية، يقول السلطان عبد الحميد عن هؤلاء: "أثنى إمبراطور ألمانيا على ضباطنا الذين يتلقون العلوم العسكرية في بلاده في أنهم في تقدم مستمر، وأغلب ظني أن الإمبراطور مخطئ في حكمه هذا، لأن تقرير سفيرنا في برلين يفيد أن القليل القليل الذين من هؤلاء الضباط يركز اهتمامه على الدراسة "، ثم يقول: "لكن أكثر شبابنا الموفدين لألمانيا - ويا للأسف - يفقدون في أنفسهم فضيلة الاعتدال والبساطة، وما يتعلمونه هناك عبارة عن شرب خمور، وعادات منافية للخلق وما شابهها "، ويقول في موضع آخر وهو يبين اتصال أمثال هؤلاء الشباب مع الغرب بعد عودتهم إلى بلادهم، وتعاونهم معه فيما يريدون: "والذين يميلون إلى التعاون مع هؤلاء حفنة من الناس بقيت خارج البلاد ردحاً من الزمن، فانقطعت عن جذورها، وتثقفت ثقافة أوروبية سطحية براقة، هذا الصنف من الناس عندما يعود إلى بلاده يجهل ما ينتظره منه شعبه، فيعمل على نشر الأفكار الغربية في سبيل جعل تركيا دولة حضارية، إنهم عمي في أبصارهم... ".
وهؤلاء الذين ذكرهم عبد الحميد الثاني، والذين تقلدوا الوظائف الحكومية والعسكرية الهامة هم الذين خانوا الإسلام، وألغوا دولته، ومن هؤلاء الخديوي والي مصر، ومصطفى كمال أتاتورك وغيرهم كثير.
· توالي الهجمات الصليبية على الدولة العثمانية في آخر عهدها، واستمرار هذه الهجمات، يقول السلطان عبد الحميد الثاني: "كان الشيء الذي يقودنا إلى الهاوية أكثر من غيره هو مؤامرات الدول الكبرى، لقد صرفنا الملايين للقضاء على هذه المؤامرات، كان الأجدر بها أن تصرف على مشاريع حيوية نستفيد منها، كما صرفنا أوقاتنا وطاقاتنا "، ويسترسل قائلاً: "أما نحن فقد نصبنا خيامنا على ملتقى الطرق بين الوحوش الأوربية الكاسرة - وكان يقصد بذلك روسيا وانجلترا وغيرها من الدول -".
تاسعاً: الكسل في أداء الأعمال، وميل الأمة إلى الخمول والدعة، يقول السلطان عبد الحميد الثاني مشتكياً من ذلك: "لو قام كل واحد منا بما أوكل إليه من مهام لأمكننا النهوض السريع، لكن الارتخاء والكسل، وعدم الاكتراث؛ قد عم كل مكان، ويضيف: ليس هناك من يريد أن يعمل ولا أن يعلم ".
عاشراً: الرشوة التي كانت ظاهرة ومتفشية في الغالب الأعم من بلاد الإسلام، بل وفي الأغنياء من موظفي الدولة، راجع في ذلك مذكرات السلطان عبد الحميد، والرشوة دافع الخيانات، وكيف تعيش أمة هذا حالها!!.
الحادي عشر: الديون التي كانت تقترضها الدولة على أن تردها أضعافاً مضاعفة - أي بربا وفائدة - يقول السلطان عبد الحميد الثاني: "أما نحن فمضطرون لتحمل تبعات الأخطاء التي ارتكبها أسلافنا، فتذهب واردات مصر، كما يذهب قسم من الواردات الأخرى للدولة إلى مؤسسة الديون العامة لتنصب إلى جيوب الدائنين، وجملة القول: إننا قوم فقراء، ومقيمون على هذا الفقر بالرغم من غنى بلادنا الطبيعية " وفي مقابل ذلك يذكر السلطان عبد الحميد الكفاءة الإدارية للمسؤولين: "أعرف أننا مفتقرون في سياستنا المالية إلى الإدارة المدروسة، والمراقبة القوية " فقد كانت الوظائف كثيرة، والرواتب باهضة، والبذخ والترف عادة وسجية في الدولة.
الثاني عشر: الاستنصار بالنصارى كما فعل الأمير جم أحد أبناء محمد الفاتح مع أخيه الأكبر السلطان بايزيد الثاني رغبة في الملك، قد تكون هذه الحادثة وحيدة إلا أنها ذات دلالات عميقة.
الثالث عشر: توافد النصارى إلى بلاد الإسلام بكثرة تحت مسميات مختلفة منها: التجارة، ومنها السياحة، ومنها زيارة الأماكن المقدسة، وغير ذلك، وفي الحقيقة أن ذلك التوافد كان لأغراض سياسية وعسكرية، ومقدمات استعمارية، وللقيام بالأبحاث والدراسات المتعلقة بذلك، ومعرفة واقع مجتمع المسلمين، وتقصد مواطن الضعف والخلل لاستغلالها في مخططاتهم، والأسباب غير ما ذكرت كثيرة، إلا أنني أتوقف عند أمرين هامين أجد أنهما من أعظم أسباب سقوط الخلافة العثمانية هما:
الرابع عشر: انتشار مذهب التصوف الذي تبناه الخلفاء العثمانيون في جميع البلاد الإسلامية في شمال أفريقيا، وشرقها، ووسطها، وفي الجزيرة العربية، والشام، وفلسطين، والعراق، وفي أرض فارس وخراسان، وآسيا الوسطى، وغيرها من البلدان، فظهرت مظاهر الشرك والوثنية من عبادة قبور الأولياء والصالحين وتشييدها، وتسريجها ودعائها من دون الله، والذبح لها، والنذر لها، وقصدها بالزيارة والطواف، وقصد التبرك والشفاعة، حتى أنه لم يخل بلد إسلامي من ولي يعبد، ومن قبر يزار, فأصبح الشرك - والعياذ بالله - إسلاماً, فانطمس الإسلام وانطمست معالم التوحيد، واشتدت غربة الإسلام بين أهله، فقد أصبحت البدعة سنة، والسنة بدعة، وأصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً، والشرك إسلاماً والإسلام شركاً، ولا أدل على ذلك من أنه حين قام الإمام الجليل محمد بن عبدالوهاب التميمي - رحمه الله تعالى - بالدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشرك ومظاهره، فألف في ذلك، وأفتى ودعا الناس؛ قوبلت دعوته من أغلب الناس بالسخرية والاستهزاء، واستنكار ما جاء به من الحق، والاحتجاج على ذلك بالكثرة، والآباء، وعدم إنكار العلماء من غيره على ذلك، وهكذا الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ظهر في اليمن داعياً إلى التوحيد والإخلاص، وتجريد المتابعة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وألف رسائل وكتباً يذكر فيها ظنه بأنه لن يجد من المسلمين من سيوافقه في دعوته، حتى إذا سمع بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عجب لذلك، وطار به فرحاً، وهذان الإمامان الجليلان قوبلا في بلديهما بمعارضة شديدة من علماء زمانهم من ضعفاء النفوس، والمبتدعة، إلى جانب دهماء الناس ودعامتهم وجهالاتهم، وحوربت دعوتهما أشد المحاربة, ووصما بالكفر والضلالة والزندقة - كما يقول الجهلة - في الأولياء والشفعاء والصالحين، ومخالفة أهل ملة الإسلام، فانظر إلى المبلغ الذي وصلت إليه الأمة من الشرك، والعجيب أنه عندما تبادر إلى سماع خلفاء الدولة العثمانية شأن حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والذي حمل السيف تحقيقاً للتوحيد، وهدماً للوثنية والشرك الذي ضرب بجذوره في المجتمع؛ بعثت هذه الدولة بتسليط الكلب الفرعوني محمد علي باشا والي مصر للقضاء على دعوة محمد بن عبدالوهاب، والحيلولة دون مواصلة جهاده في الجزيرة، رغم كيده للخلافة العثمانية، ومناوئته لها.