حذرت الدعوة الخاتمة من الميل إلى الذين ظلموا، لأن على أعتابهم يأتي ضعف العقيدة وفقدان القدوة، وبينت أن قيام الذين ظلموا بتوجيه الحياة العقلية والدينية للأمة، ينتج عنه شيوع المشكلات الزائفة التي تشغل الرأي العام وتجعله داخل دائرة الصفر، حيث الجمود والتخلف، وعلى أرضية الجمود تفتح الأبواب لسنن الأولين، ومعها يختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال، وبهذا يتم التعتيم على نور الفطرة وتغيب الحقيقة تحت أعلام الترقيع والتلجيم التي تلبست بالدين، قال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) (هود: 113)، قال المفسرون:
نهى الله - تعالى - النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته عن الركوع إلى من اتسم بسمة الظلم، بأن يميلوا إليهم، ويعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية، لأن الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا، يخرجهما عن الاستقلال في التأثير، ويغيرهما عن الوجهة الخالصة ولازم ذلك السلوك إلى الحق عن طريق الباطل، أو إحياء حق بإحياء باطل، أو إماتة الحق لإحيائه.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن الأمة ستركن إلى هؤلاء، وأمر بأن تأخذ بالأسباب، لأن الله - تعالى - ينظر إلى عباده كيف يعملون، فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) (1) وعن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يهلك أمتي هذا الحي من قريش)، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (لو أن الناس اعتزلوهم) (1)، وعن خباب بن الإرث قال: إنا لقعود على باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ننتظره أن يخرج لصلاة الظهر، إذ خرج علينا فقال: اسمعوا، فقلنا: سمعنا، ثم قال:
اسمعوا، فقلنا: سمعنا، فقال: (إنه سيكون عليكم أمراء فال تعينوهم على ظلمهم، فمن صدقهم بكذبهم فلن يرد علي الحوض) (2)، وعن حذيفة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيكون عليكم أمراء يظلمون ويكذبون، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعينهم، فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض) (3) ومن هذه الأحاديث يستنتج أن الأمراء ضد خط أهل البيت بدليل أنهم لن يردوا على الحوض، وفي الحديث أن أهل البيت مع القرآن ولن ينفصلا حتى يردا على الحوض، ويستنتج أيضا أن أهل البيت لن يكونوا في صدر القافلة، وأن هناك أحداثا ستؤدي إلى إبعادهم عن مركز الصدارة، بدليل وجود الأئمة المضلين وأمراء الظلم، فلو كان أهل البيت في الصدارة، ما اتخذوا هؤلاء بطانة لهم، لأن أهل البيت مع القرآن، والقرآن نهى عن ذلك وبالجملة، أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجود تيار في بطن الغيب سيعمل ضد سياسة أهل البيت، وأن هذا التيار لن يرد على الحوض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلا ذيد يوم القيامة عن الحوض) (4) وقوله
لعلي بن أبي طالب: (يا علي، معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن حوضي) (1)، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمواجهة هذا التيار باعتزالهم وعدم إعانتهم وعدم تصديقهم، وروي عن ابن مسعود، قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم:
(إن رحي الإسلام دائرة، وإن الكتاب والسلطان سيفترقان، فدوروا مع الكتاب حيث دار، وستكون عليكم أئمة إن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم، قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال: كونوا كأصحاب عيسى، نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير، موت في طاعة، خير من حياة في معصية) (2)، وروي عن معاذ قال: قلت يا رسول الله: أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرني في أمرهم؟ فقال:
(لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل) (3).
وروي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقع يده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم تلا قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم) إلى قوله: (فاسقون) (المائدة: 78 - 81)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(كلا - والله - لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا (أي: لتردنه إلى الحق)، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم) (4)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها،
فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإننا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا، وإن تركوهم غرقوا جميعا) (1).
كانت هذه بعض تعاليم النبوة لمواجهة الظلم والجور في وقت ما على امتداد المسيرة، أما بعد استفحال الظلم والجور، نتيجة للثقافات التي عمل منها المنافقون وأهل الكتاب غثاء مهمته النباح تأييدا للجلادين، والتصفيق للزبانية ومصاصي الدماء، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ترون إذا أخرتم إلى زمان حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا، وكانوا هكذا (وشبك بين أصابعه)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون، ويقبل أحدكم على خاصة نفسه، ويذر أمر العامة) (2)، وفي رواية: اتق الله عز وجل، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم) (3).
وبالجملة، بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن صنفا من الناس سيحرص على الإمارة من بعده، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستصير حسرة وندامة يوم القيامة، نعمت المرضعة وبئست الفاطمة) (4). نعم المرضعة: لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية، وبئست الفاطمة: أي بعد الموت لأن صاحبها يصير إلى المحاسبة. قال صلى الله عليه وآله وسلم (ليتمن أقوام ولوا هذا الأمر، أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يولوا شيئا) (5)، وليس معنى هذا أن الإسلام لا يعترف بالقيادة والإمارة، فالإسلام يقوم على
النظام، وفيه لكل شئ ذروة، والحديث يحذر غير أصحاب الحق من أن ينازعوا الأمر أهله، لأنه في المنازعة ضياع للأمانة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظروا الساعة) (1). ويفسر هذا ما روي عن داود بن أبي صالح، قال: (أقبل مروان بن الحكم يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أتدري ما تصنع؟ وأقبل عليه وإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم، جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله) (2).
وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة أسباب الهدى على امتداد المسيرة، تحت مظلة الامتحان والابتلاء، بين الأسباب في عصر فيه الصحابة، وبينها في عصر فيه التابعون، وبينها في عصور جاءت بعد ذلك، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
3 - التحذير من ذهاب العلم
إن كل موجود يحظى بالعلم بقدر ما يحظى بالوجود، والله - تعالى - يرفع الذين آمنوا على غيرهم بالعلم، ويرفع الذين أوتوا العلم منهم درجات، بمعنى أن العلم له مكان في دائرة الذين آمنوا، وهذه الدائرة مراتب ولها ذروة، قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة: 11)، وذروة الذين أوتوا العلم، مع الذين ارتبطوا بكتاب الله، ولن ينفصلوا حتى يردوا على الحوض، ومن دائرة الذروة تخرج المعارف الحقة والعلوم المفيدة، لأن الذين في الذروة هم العامل الذي يحفظ الأخلاق ويحرسها في ثباتها ودوامها، ولأن من عندهم تتدفق العلوم التي تصلح
____________
أخلاق الناس، ليكونوا أهلا لتلقي المزيد من المعارف الحقة التي لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلاقهم.
وكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أمته بأن يمسكوا بحبل الله ليردوا على الحوض، أخبر كذلك - بالغيب عن ربه - بأن العلم سيرفع، ورفعه هو نتيجة لذهاب أوعيته، عن أبي الدرداء قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شئ فقال زياد بن لبيد: كيف يختلس منا، وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟) (1)، وفي رواية عن شداد بن أوس قال: (وهل تدري ما رفع العلم؟
ذهاب أوعيته) (2)، وفي رواية عن أبي أمامة قال: (وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يصبحوا يتعلقون بحرف واحد مما جاءتهم به أنبياؤهم، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته) (3)، وقال في تحفة الأحوازي: (ومعنى هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، أي أن القراءة دون علم وتدبر محل نظر، وقال القارئ: أي: فكما لم تفدهم قراءتهما مع عدم العمل بما فيهما فكذلك أنتم) (4).
وعلى امتداد المسيرة ظهر ما كان في بطن الغيب ظهر الذين يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وظهر الذين قرأوا ثم نقروا ثم اختلفوا ثم ضرب بعضهم رقاب بعض، وظهر الذين قرأوا ثم اعتزلوا ثم خرجوا على جيرانهم بالسيوف ورموهم بالشرك،
____________
(4) تحفة الأحوازي: 7 / 413. بينما كانوا هم إلى الشرك أقرب، وظهر الذين لا يقرأون القرآن إلا في حفلات النفاق التي يشرف عليها اليهود والنصارى في كل مكان، وعلى أكتاف هؤلاء وهؤلاء، انطلق البعض في طريق التقدم إلى الخلف، وارتبط مصيرهم بمصير الذين سبقوهم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن بني إسرائيل إنما هلكت حين كثرت قراؤهم) (1)، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذين يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين، وقال: (لا يزالون يخرجون، حتى يخرج آخرهم مع الدجال) (2)، وفي رواية: (كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون مع بيضتهم الدجال) (3) وبالجملة، أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة في أول الطريق، وانطلقت مع المسيرة حتى نهاية الطريق، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن تأخذ بحبل الله حتى لا يضلوا، وقال: (ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي إلا له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (4)، وقال في الفتح الرباني:
(الحواريون هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم، والخصان هم الذين نقوا من كل عيب. وقيل الخلصان هم الذين يصلحون للخلافة بعد الأنبياء) (5).
ولقد دافع الإسلام عن العلم، ولم يقاتل يوما من أجل الكرسي، وأمر بالجهاد للإبقاء على الذروة التي تفيض بالعلم الإلهي ذروة كل العلوم